الثلاثاء، 21 فبراير 2017

غريبٌ في القرية / قصة قصيرة: عبد الصبور محمد الحسن / مجلة قطوف أدبية / رئيس التحرير: سمر معتوق





غريبٌ في القرية 
كنتُ ألهو مع أترابي في ساحة القرية عندما لمحْنا رجلاً غريباً ينظر إلى داخل المسجد من نافذته ويتلمّس حجارةَ جدرانه بشوقٍ ...
كان الرّجل في العقد الخامس، نحيل طويل أبيض البشرة، جميل الملامح , ولكنَّه شاحب الوجه! تبدو عليه علامات فقر الدّم كأنَّه خارجٌ لتوّه من المشفى إثْرَ مرضٍ عضال! 
قصّ شعره وحلق لحيته اليوم كما يبدو، يرتدي ثيابا واضح أنَّها ليست له، بدلالة الخيط الذي استعمله بدلا من الحزام في تثبيت بنطاله على خصره.
اقترب الرّجل منّا وكنّا قد توقّفنا عن اللعب لنراقبه، ابتسمَ ابتسامةً حانية، وضع يده على رأسي وسألني بصوت خافت أجهدَ نفسه في رفعه ولم يُفلح فخرج على هيئة حشرجة وكأنّ حباله الصّوتيّة لم تستعمل منذ سنين: تعرفُ بيت الحاج (محمّد الحسن) يا بنيّ؟
فقلت: نعم إنّه جدّي ... فأشرقَ وجهه وقال حقا؟! قلت: نعم، ولكنّه مات منذ سبع سنوات، ولحقتْ به جدّتي بعد سنة! 
فامتلأتْ عينا الرّجل بالدّمع وكاد يختنق ولكنّه تماسك! 
سألني: ابن من أنت؟ 
قلت: ابن (جمال الحسن) ..
قال بابتسامة عريضة ذَهَبَتْ بما في عينيه من دمع: حقّاً! وقد تزوّج (جمال)!؟
 قلت: نعم وأنا ابنه الثّالث ...
ثم تابع: وعمّكَ (كمال) ما أخباره؟
قلت: مات من زمن بعيدٍ وأنا لا أعرفه، ماتَ قبل أن أُخلق وأبي يقول أن جدّي وجدّتي ماتا كَمَدَاً عليه لأنّه ماتَ شابّاً. 
حوقل الرّجل وعادت الدّموع إلى عينيه وقال رحمهم الله جميعاً.
ضمّني الغريبُ وبودِّه لو يدخلني إلى صدره ثمّ نظر إليَّ مليّاً ونظرتُ إلى عينيه الجميلتين المتعبتين المثقلتين بالقصص الغامضة وقال لي: 
خذني إلى بيتكم يا بني.. 
أمسك الغريب بيدي كطفل ضائع أكاد أسمع دقّات قلبه لشدّتها وسرعتها وكأنَّ قلبه طبلٌ صغيرٌ!
يسألني في الطّريق: هذا بيتُ من؟ وهذا بيت من ؟وعندما رأى بيتنا من بعيدٍ أشرق وجهه و قال:
ذلك هو بيتكم، صحيح!؟
كان أبي منهمك في إصلاح الجرّار .. توقّف عن العمل عندما اقتربنا منه، كانت نظرات أبي صادمة مليئة بالدّهشة! وكذلك نظرات الرّجل، ما بهما؟
 لم يسلّما على بعض! 
مرّت دقيقتان على هذه الحالة وهما ينظران فقط! 
 امتلأت عيناهما بالدّمع. 
رمى أبي بما في يده على الأرض وتقدّم نحو الرّجل وتعانقا وهما يبكيان كالأطفال الصّغار دون كلام! ومرّت دقائق ودقائق... ماذا يحصل!؟
 هذه المرة الأولى التي أرى فيها أبي يبكي بعد وفاة جدّي! 
أخيراً نطق وقال للرّجل:
الحمد لله، الحمد لله، عشرون سنةٍ يا (كمال) عشرون سنةٍ مضتْ حتّى خرجت من المعتقل!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...