الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

(فؤاد يتمزق) بقلم منى البريكي . تونس


                           منى البريكي  . تونس 


(فؤاد يتمزق)

انتبذ  فؤاد  مكاناً قصياً في آخر المقهى و جلس وحيداً يعاقر الصمت غير عابىء  بصخب من حوله و لا مرحهم و لا نكاتهم التى تتناهى إلى سمعه كأنها آتية من قاع بئر سحيق و لم يخرجه من شروده غير اقتراب النادل مصحوباً بسمرائه الفاتنة فكان لزاماً عليه أن يشعل  سيجارته كعادته كل ليلة لتكتمل طقوس خلوته المعهودة و ليسافر في رحلة سريالية مع دخانها المتصاعد و عند أول رشفة من قهوته تاه في مسارب الذكرى و جال بخاطره أول لقاء بينهما فانبعث طيفها من بين دوائر سحابة الدخان  بكل عنفوانه وتراءت له في أبهى حلة و هي ترنو إليه بعينين مسهدتين .تأملها بقلب وجل إنها أميرته،فاقت في حسنها القمر ليلة اكتماله  و تسللت النجوم لتختفي أمام جمالها  و  حين آنس منها دنواً غير متوقع أراد أن يلثم شفتيها المتوردتين فضغط على سيجارته بقوة و عب النيكوتين بملئ فمه لتزداد صورتها وضوحاً و هي تنساب أمام  ناظريه و ترحل متسربلة بظلام روحه في غيابها فتهمي الدموع على وجنتيه  و صدى  صوتها يتردد في أذنيه:
-"سنكون أحلى عروسين يا فؤادي و لا تنسَ أن تحملني بين ذراعيك و نحن ندخل عشنا الدافىء."
و يستبد به الشوق و تجتاحه الذكرى فيراها كما أول  مرة تدخل عليه الاستوديو و هي بكامل أناقتها و أنوثة طاغية تفر من بين أعطافها فتتسارع دقات نبضه حين تصيبه بسهام لحاظها  كقناص تمترس بالظلام و صوب نحو صدره رصاصة تداعى لها سائر جسده فنزف عشقا.
و يسرح بخياله الجامح فيستعيد كل نقاشاته معها و هو يحاول إقناعها بصدق مشاعره فقد كانت ثائرة لا تبالي بالرجال و لا تستهويها العلاقات و كانت تجيبه بالقول :
-"أنا امرأة ترفض تبعية رجل شرقي يقيد روحها و يجلدها بسياط الغيرة و التملك في مجتمع  ذكوري يريدني أسيرة مخدع وثير ؛مجرد تمثال برونزي يزين البيت  و يمارس الحجر على أفكاري فيغتال قلمي و يربك أحلامي.  و لا يراني غير وعاء للإنجاب فيبخسني حقوقي لأعيش مهمشة بلا عنوان. "
و كان يكتفي أن يكون رفيقها الذي  تقاسمه همومها و جولاتها بين البلدان و هي تحقق نجاحات في مجال الموضة و الأزياء إلى أن مرض مرضاً ألزمه الفراش فاعتنت به و بذلت قصارى جهدها ليتعافى حين أدركت  كم كانت تحبه و كم كانت تخشى فراقه.
هزه النادل برفق و هو يقول :"لم يبق بالمقهى غيرك يا سيدي و قد أوشك  الفجر أن يبزغ يجب أن أنظف المكان قبل أن أغلق الأبواب. "
نظر فؤاد إلى المنفضة التي امتلأت بأعقاب السجائر و قام متأففاً و هو يغمغم في حنق باد للعيان:
-"تبا لك أيها الشاب البغيض كيف قاطعت منادمتي لحبيبتي؟ لقد رحلت قبل أن  أرتوي من مدام كأسها كمزن خلب بللت أرضا قاحلة دون رواء فما اهتزت لهطولها و لا ربت ."
ثم أشعل سيجارته الأخيرة ليدخنها بشراهة من يريد استزادة عذاب يعتمل بين جوانحه و خرج مترنحا يسابق طيفها خطوه المتثاقل كثمل ينشد هواء الشارع
و يزداد نشيجه و يتذكر كيف تلقى الخبر المشؤوم الذي نزل عليه كصاعقة و هو يستعد للذهاب إلى قاعة الحفل ليهرع إلى مكان الحادث ملتاعا. فيجدها مكفنة بفستانها الأبيض؛ و عيونها شاخصة، و على شفتيها ابتسامة الوداع الأخير. لا يعرف إلى اليوم كيف حملها كما أرادت. و لكن و هو ينتحب مكلوماً لمصابه. بينما كانت جثماناً طاهرا أبى القدر أن ينتزعه منه ؛و هما قاب قوسين من سعادة رحلت برحيلها. لتتركه وحيداً يملؤه الصقيع. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...