الأحد، 19 يوليو 2020

سبات: بقلم عفاف حسين الخطيب . سوريا


                    عفاف حسين الخطيب  . سوريا 

سُبات:

أخذ صدأ اللامبالاة يتآكلني، لم تعد غريزتي بالبقاء تنشل صَبابة مهجتي في عناق أجلها،
غير أنني حاولت كثيراً لاستعادة نفسي التي استقرضها البؤس منذ ولادتي وكأنني أعيش وصب  القبر فوق التراب،
محاولاتي التي سحقها شظف السنين في التماس السبل لإقالتي من جمودي شكلت حائلاً بيني والحياة وقد تكدّست على ظهري، أكابد صقل الأيام بكل برود ،والزهد يملأني شيئا فشيئاً، يلتفني بشعور متخثر جملته العصبية متأذية لا تصلح لنقل رسالتي إذا ما أردت الصراخ تعبيراً عن ألمي ،لأجدني أقفر في عمق الخمول
والشجن يخددني،يجوّف قلبي بخنادق من الاستسلام التي جعلت بطيناته تزيد عن الأربعين لشدة ما حفرت معاركي الذاتية به من ثغرات ،لكنني ترجلت نحوه بحيلتي المبتورة وبصيرتي العمياء ،أتسكع على رمقي المتبقي من نزيف ديمومتي محاولة إسلام روحي كخطوة غير ثابتة من امتطاء الراحة.
إلا أن حدود المسافات القصيرة التي أقامتها الحياة في وجهي منعت شغفي من المرور كي يعانق السرمدية، مثل لاجئ يحمل أمتعته في ذاكرته التي تعاني من عوز الإحساس وضياع النسيان
وبكل قواي حاولت احتوائي لأجدني أنفذ من نفسي بوعي وبدونه.
كنت اقتباساً مبصوقاً  من فم الوجل وماعادت شهية  الفرح تتقبلني ،رمتني قرفاً على هوامش الوجود وكأنني هفوة الزمن ،التي سيدفع أغلا مايملك في إصلاحها مهما كلفه الأمر من المشقة ليكون سوءه كافياً في تعذيبي .

بوصلة الحقيقة الكبرى: بقلم الدكتور سامي محمود ابراهيم . العراق


                الدكتور سامي محمود ابراهيم . العراق  



بوصلة الحقيقة الكبرى:


رقصة فرح العالم تغرد في الكون وفي لحظة وجودنا الهاربة منطق عشق يبدأ بالسؤال: لم صرنا والوجود؟ ..
وقبل جوابي الذي يحمل روح السؤال ذاته.
أضع إلى يميني وردة، وإلى يساري قلما، أضع مابينهما أشياء أحبها، وأتخيل تيمناً بما وعدنا به الرحمن، أنني صاعد إلى السماء، ثم أسأل نفسي: أي الوجودين أحب لي في هذه الرحلة؟
جسدي الذي كنت به موجوداً، أم روحي التي فاض بها الوجود..
ولا شك في أن جوابي سيكون: أنا.
أنا إن أردت أن أكون، أكون موجوداً
فالإنسان مكتوب فوق سراب على رمال الوجود وشاطىء الحياة.
هو مقامر كبير، يلعب على ورق المستحيل، يؤثر الوجود العابر على الوجود الباقي بغية إرضاء الأنا  الفارغة التي لم تسمع لحن الوجود ولم تفهم لغة العالم.
ألم يحن إثبات وجوهنا( وجودنا) في التراب الزائل؟.
فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
ما أقصر الساعات في اليوم ، وما أقصر اليوم في الأسبوع ، وما أقصر الأسبوع في الشهر ، وما أقصر الشهر في السنة، وما أقصر السنة في العمر، وما أقصر العمر في سنوات الكون الضوئية.
لم يعش الإنسان حياة الذرة... الإلكترون، البرتون ، النيوترون الكوارك ودورات عشقها حول نفسها وحول بعضها.. طاعة بمنتهى الخضوع، سجود بمنتهى التسليم ، نواميس بمنتهى الدقة.
 أما العبد التراب الإنسان الطين فقد دار حول ذنوبه مرات فبلغت عنان السماء، مثل زبد البحر. اللهم اغفر جرأة إنسان الطين فعلى امتداد اليوم يسلم اعتقاداً ويؤمن شرعاً وخلقاً ، لكنه على حين غفلة من هذا اليوم القصير ينسى لفطرته المجبولة على الخطأ والنسيان، ويتقلب بين الكفر والإيمان بين الخير والشر. الله أكبر من شدة تقلب القلوب....   سبحانك ربنا يا من كتبت على نفسك الرحمة.. يا من رحمتك وسعت كل شيء.
كانت البداية كنزاً مخفياً ، ثم شاء رب العالمين أن يخلق من العدم الى الدخان الى الماء الى مليارات المجرات والنجوم والافلاك ..... من تراب الى صلصال الى خلية الى مخلوق يكتشف الكون ويبحث في اغوار السماء الدنيا الاولى فيعرف انه يقف عند حدود وسواحل محيط العطاء والخلق الرباني. كيف لطفل  « العقل البشري» ان يعبر كل هذا بمركب من الورق. ففي دنيا الغيب وعالم الامر لا تنفعنا قوانين العقل ومسلماته.. فللطيور عالمها وللاسماك عالمها وللعقول البشرية عالمها الخاص أيضا. فهي في هذه الدنيا لم تنشأ النشاة الاخرى حتى تهتدي بامر الله . الله اكبر من كل شيء....... لا تحيطه الظنون ولا يصفه الواصفون.
الله اكبر لا يدنوا القياس له
              ولا يجوز عليه كان او صارا
ففي النهاية:
للعقول حدود لا تجاوزها
      والعجز عن درك الادراك إدراك
فمن رحمة الله ان غيب عنا القدر.. رحمة الله تعالى هي النسيج الذي يحكم الكون، هي القانون الذي يسري على الوجود. هو سبحانه اكبر رحمة واكثر من الوالدة بولدها.
بكى جلال الدين الرومي عندما سمع قوله تعالى« يا ايها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه» بكى الرومي لرافة الله وحلمه بعباده. فالله تعالى يتوعد اثم الارتداد عن  الدين بارقى ما في الوجود من مشاعر الحب، فالقيمة الوحيدة التي تقف على نقيض الردة والشرك هي حب الله تعالى. واذا كان الحب يساوي العطاء فعطاء الله ليس له حدود اما عطاء الانسان وقدرته فمحدودة. ولذلك اوجب الله تعالى شكر النعم بدلا من العطاء ، ويجعله سببا في زيادة العطاء. ...سبحان المعطي
عباراتهم شتى وحسنك واحد
                       وكل الى ذاك الجمال يشير
في  النهاية سنحاسب بعدل الله  ورحمته . وللعدل رحمة تشفي صدر الكون المليء بالمظالم والاثام .. فالنتزكى
فاخلعوا الانفس عن اجسادها
                                  فترون الحق حقا بينا
 وهنا انتهى ديوان شعري الى ان رقصة فرح العالم تغرد في اذاننا جميعا، وبدون الرحمة والحب تتحجر القلوب ، خاصة بلاغة الكلام ارحم  من بلاغة الواقع ..... هذه هي العقيدة الربانية كتاب الله المسطور  يؤيد صفحات الكون المنظور.
اريج العقيدة من شذاها يعبق
                               وتكاد تنطق لو اطاع المنطق

مقطع من رواية: ابنة الشمس . أمل شيخموس . سوريا


                        أمل شيخموس  . سوريا 


من رواية:    ابنة الشمس 


     ما هذا العالم المصنوع من الكرتون والزجاج ؟
 إني أراهُ عالماً عاجزاً عن الإحساس والمحبة والحياة .. عالمٌ يفتقدك، إنَّهُ عالمي المليء بالوحشة والفرقة والغربة ..
 غريبةٌ .. غريبة يا حُبيبات الفؤاد القريح .. أحبكَ يا صميم الفؤاد النازف يالك من أحمق ! كيف تحرم نفسك مني؟
فأنا الجنَّةُ التي ستُسعدُ فيها لا محالة وسترثُ الملك فيها وتصبحُ سيد العالم المشنوق بانتظارك المر.
أريدك شعلة محبةٍ تضيء لي الطرق المظلمة ، أفتقدكَ ولا أحد يأخذ مكانك الشاغر في روحي فكل الذين تقدموا لاحتلال مكانك الشاغر عجزوا وباؤوا بالفشل، فأنت سيد الرجال فمُدَّ كفيك إلى مملكة الغنج والدلال ولن تندم لأن أصابعكَ ستتلون ذهباً وزمرداً ومُرجاناً ، لا تتردد ياقرحة الفؤاد المذبوح برموشك كالشفرات الحادة التي حلقت في عالمي نسراً ملوناً ، كل لونٍ من حياة وكُلُ حياةٍ من هول أهوال حبك لا تدعني أنعم بالسلام .
في حبكَ رأيت العويل واللهيب، في حبك البخيل مشتاقةٌ إليك، مشتاقة ياطنين الذكريات العنيدة التي لا تأبى أن تفارق مخيلتي النازفة ، ياساكناً في اللاشعور ، في العقل الباطن.
أتمنى الرحيل عن الأرض مادمت إلى جانب غيري.
 ألا تفكر في أنكَ خلفتني  وحيدة في عالمٍ موحشٍ لا أجد فيه سوى الذباب الخبيث يحطُ على خرائب أحلامنا المدمرة ؟

الأربعاء، 15 يوليو 2020

قراءة في ديوان ( وشاية قلم ) للشاعر السوري حسن قنطار. بقلم الأديبة الدكتورة هبة ماردين.



قراءة في ديوان ( وشاية قلم ) للشاعر السوري حسن قنطار.  بقلم الأديبة الدكتورة هبة ماردين.


وشاية قلم ديوان شعر للكاتب السوري حسن قنطار،
من إصدارات دار ديوان العرب للنشر والتوزيع \ مصر

وشاية قلم ديوان شعر موزون، يحمل بداخله مجموعة من المواضيع والخلجات الروحية التي تستحوذ على ملكة عقل القارئ وتسكن قلبه دون استئذان، حيث تفرد الشاعر في أسلوبه الشعري وانتقائه لمفرداته بعناية وذوق خاص، فنرى في كتاباته لوناً شعرياً لم نره منذ زمن الشعر القديم الذي يمتاز بالفخامة، الشاعر حسن قنطار ابتعد قليلاً عن المفردات المتداولة في عصر الحداثة أو الشعر الحديث، واستخدم مفردات أكثر بلاغة وصوراً بيانية جميلة وسامقة، فكانت نصوصه أشبه بالمعلقات وإنَّ أقرب ما يخطر بذهن القارئ أثناء قراءة نصوص الشاعر حسن قنطار، هو الشعر الجاهلي فقد عاد بنا الشاعر إلى عالم امرؤ القيس وأبناء جيله من خلال أسلوبه في فن كتابة الشعر.

أما عن مواضيعه التي تناولها فهي قضايا اجتماعية وبعض الوجدانيات والحب والغزل، حيث وشى لنا قلمه عن مكنونات روحية تفجّرت على شكل حروف مرصوفة بشكلٍ مهندسٍ ومنمق فوق السطور التي تحتضن كلماته، أما الوطن الجريح فكان جُلَّ همِّ الكاتب ووجعه الأكبر، فباح بكل مواجعه ولم يستطِع كبت هذه الصرخة، وهل هناك أغلى من الوطن؟!!

نرى في ديوان الشاعر حسن قنطار الكم الممتع من القصائد التي تأخذ القارئ في رحلة شعرية بين الماضي والحاضر من جهة الأسلوب الفني، كما تأخذه في رحلة أخرى ليرى من خلالها جمال ما وصفه الشاعر من شخصيات داخل نصوصه.

لقد أبدع الشاعر فيما كتب وقدم لنا نتاجاً أدبياً قيماً، نتمنى له كل التوفيق والتألق والعقبى للمؤلف الألف.

                                         
                                               د. هبة ماردين . سوريا

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

/ أنا / بقلم عبد المنعم عامر . الجزائر


                       عبد المنعم عامر  . الجزائر 


أنا:

خمسة وعشرون عاماً، أو أحزن قليلاً
شعري أسود وعيناي بنيتّان
طويلٌ كالعطش
كتفاي عريضان
 ربّما كنت سأولد بجناحين
لكن لسوء الحظ مسّني الشيطان
فلم أكن ملاكًا ولم أجرّب السماء.

*****************

ظهري أحدب للأسباب التالية :
لطالما أرهقتني أحلام أمي
بأن أكون طبيباً أو مهندساً.

وأحلام أبي بأن أكون إماماً أو خطيباً.

لكنني لم أوفّق في الدراسة
لأنني كنتُ حشّاشا وزير نساء.

انتقمت من كل هذا وأصبحت فاشلاً

شاعراً لا طائل منه سوى الكلام الجميل.

******************

 لدّي ساقان قويّتان
هأنا واقف منذ قهرين
وسأركض هارباً كلّما زاحمني الفرحُ
أو زارني أصدقاء قدامى
كل شيء سلبي في حياتي
ما عدا فصيلة دمي (ب /إيجابي)
لدّي معدةٌ ضعيفة 
كنتُ أريدُ أن أعيش سعيداً
فشربتُ كل أنواع الكحول الحادّة
نعم ارتديتُ الفرح لياليَ كثيرة
 لكن بضمير من نَدم.

***************
لدّي قلبٌ غير مفهوم ومزاجي
لطالما ورطّني في نساءٍ وخيبات كثيرة
قلبي كلبُ بادية
إنه يركض نحو الجميع بلا هوادة
لدّي فوبيا من المرتفعات والصمت
المرتفعات انتحار
الصمت جنائز.

***************

لدّي أربع أخوات إناث وذكرٌ وحيد
أحب الكبيرة بضعفِ الذكريات المشتركة
والأخريات أضلاعي كلما بكت إحداهن
يضيق نفسي ..
أخي دخل حياتي فجأةً ..
لا أهضم دخوله المتكرر لغرفتي
لكنني أحبه كلّما غبت وأخاف أن يشبهني.

******************

أبي نقطة ضعفي الوحيدة ..
لطالما توهّمت أنه نبي لكن الأنبياء لا يدخنون

أمي مخزنُ ذنوبي وأخطائي
لقد أرضعتني خمس سنوات كاملة
بحجّة أن تكون لدّي عظام قوية
لهذا وكلّما اشتقت لها تؤلمني مفاصلي.

*****************

أحلم بأن أصبحَ كاتباً كبيراً
أجول العالم وأظهر في التلفاز ..
لأنتقم لعائلتي الفقيرة من أحاديث القرية ..
بأنني مجنون وأحدثُّ نفسي أغلب الوقت.

******************

المرأةُ الوحيدة التي سأحبها
ربما لن تكترثَ لأمري وستمضي في طريقها
فخورة بإنجليزيتها الجيّدة وأظافرها الملوّنة.
لكنني سأقول لها الٱن أحبك
لربّما تقرؤُها في حضني بعد سنوات .!

أغلبُ ملابسي سوداء
لوحدي أمشي
في جنازة هذا العالم المسكين !!
متى ينتهي كل هذا لنعودَ عراةً كما البداية .

الأحد، 12 يوليو 2020

( ثمّ ): بقلم رأفت حكمت . سوريا


                          رأفت حكمت  . سوريا 

ثمّ :

وبعدَ أنِ امْتحَنْتَ الأشياءَ بنفسِكَ
قلتَ لامرأةٍ مُدمنةٍ عليكَ:
- عن يديكَ -
إنّهما على قلقٍ، إذ بأيِّهما ستبدأُ، تهرُشُ قلبَها .

كأنّكَ شجرة ..
لكَ التُّرابُ .. وَلكَ الماءُ 
وما عليكَ إلّا فقط، 
أن تعلو 
وَ
تعلُو ..

مانحاً كلَّ فروعكَ للرّيحِ ..
ثِقةً 
كأنْ ليسَ يُخيفكَ،
أنَّ من أقسى صفاتِ الرّيحِ
أغصاناً تتكسَّر ..

كأنّكَ لا يَهمُّكَ ، إنْ فقدتَ أصابِعَكْ .

السبت، 11 يوليو 2020

( عورة) بقلم فاتن فاروق عبد المنعم . مصر


                      فاتن فاروق عبد المنعم . مصر 


( عورة ):                                   

عائلة ماسية الأصل مخملية التكوين، يشوبها ابن ثقلت الحروف على لسانه فلا يفهمه سواهم، فاره الجسد، موفور الصحة، وسيم الملامح وأعطب ملاحته نظرات الدهشة التي لا تبارحه، شفتان منفرجتان أغلب الوقت وعيون مفتوحة عن آخرها متصلبة تتنقل حدقتيها ببطيء علها تهتدي، وإيماءات تشير إلى الرغبة في الاكتشاف المستمر لذا حرصوا على إخفائه دائما عن مجتمعاتهم فإن كان لديهم الاحتفال بمناسبة ما أخفوه حتى لا يراه أحد فيتسبب وجوده في إحراجهم، كثيرا ما أظهر تبرم من نوع ما من سجنه الحريري كأن هذه الخيوط تذبحه ببطيء فلا يكفيه اللعب في حديقة المنزل بمختلف الألعاب المتاحة له.
لولا صوت عبر الهاتف قلب الموازين بوفاة الأم والأب في حادث، ففرغ البيت إلا منه فأغفل حارس البيت وخرج من البوابة التي كانت موصدة بصفة دائمة، يعدو ناظرا خلفه خوفا من أن يعقبه شخص ما فابتعد وابتعد عن البيت يعدو مرة أخرى كخيل في سباق، تصارعت أنفاسه وسمع صوتها، توقف وجلس على مقعد انتظار الحافلات ليستريح، هدأ ارتجاج صدره فعاد لمواصلة السير توقف أمام عربة فول يتحلق حولها بعض الآكلين فاتخذ موضعه بجانبهم بأحرفه المتعثرة أعرب عن رغبته في طبق فول فاستجاب له البائع ووقف يأكل بنهم بينما رفقائه مع البائع تبينوا حقيقته من أول نظرة، أنهى طعامه وعاد للسير على غير هدى ولم يسأله البائع ثمن ما استطعم.
لأول مرة لا يأكل بميعاد وقائمة مجدولة باليوم والساعة، لأول مرة لا يخضع لجلسات طبيب التخاطب ولا لمعلمته التي تعلمه سلوكيات تحفظ آدميته من الدخول إلى الحمام لقضاء حاجته والحديث بأدب وتحفيظه مفردات تليق بعائلته وطريقة استخدام أدوات المائدة والأكل باليمين والتسمية قبل البدء بالطعام وحمد الله بعد الانتهاء من طعامه، لأول مرة سيتحرر من حموم الصباح والمساء، لأول مرة لن تفحصه أمه، فتلحظ عيناه المحمرة أو لاحظت ارتفاع درجة حرارته فتستدعي طبيبه ليصف له الدواء المناسب، كأنه مزق تلك الخيوط الحريرية التي كانت تؤلمه بحدتها.
مر بكولدير شرب بالكوب البلاستيك المتسخ وهو الذي لم يشرب يوميا إلا من كوب زجاجي يبرق كأنه الماس والماء بداخله كأنه اللؤلؤ، أخذ يتأمل الكوب البلاستيك المتسخ كأنه أثر يبهر الناظر إليه، وعاد لمواصلة المسير فتوقف أمام اثنان يتجولان بطبلة ومزمار بلدي يستجديان بعض العملات القليلة من المتحلقين حولهما، كل منهما يرتدي الجلباب البلدي، كل منهما يعزف على آلته فحرك العزف جوارحه فأخذ يرقص رقصا عفويا بوهيميا كمن حل من الغابة ولم ير المدينة قط حتى عندما ابتعد عنهما ظل على نوبة الرقص المفضي إلى الصعلكة فقد كان يحرك ذراعيه وساقيه يبادلهما الرفع والخفض ويميل بجذعه ويدور حول نفسه كثيرا كأنه يجرب مرونة أعضائه المقموعة كأنه كان حبيس كبسولة معقمة، وقع على الأرض بعد أن فقد توازنه من كثرة الدوار والترنح عبثا، تقلب على الأرض كأنه غاب عنها ردحا من الزمن وحان اللقاء المفضي إلى التمسح بترابها ليعلق بملابسه ووجهه وساعديه وراحتيه ويمتزج بحبات العرق التي انبثقت من جسده الذي حال دون تحررها طيلة حياته مبردات الهواء المعلقة في أركان بيت أسرته فيسفر هذا الاتحاد عن تلبك التراب ليصبح مايشبه مسحات من الطين استدعت أمارات الدهشة على ملامحه بصورة أكبر فتوقف عن أي فعل محاولا استيعاب ما يرى واستغلق عليه الفهم وكيف يفهم وهو الذي كان دوما الخبأ الذي وارته أسرته، واصل السير العبثي بين هذه الكيانات التي قدت من الشقاء والصبر الذي أرخى سدوله على تلك الوجوه التي اكتشفها حديثا ليجد نفسه يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون لدرجة أن علامات الدهشة ازداد أوارها بعد مغادرة كبسولته المعقمة، وقف مثلهم عند بياع عصير القصب وأشار بحروفه المتعثرة عن رغبته في كوب عصير ولم يضيق البائع به بل استجاب في حبور، خطوات معدودة ووجد بعض القلل التي يقترب منها الباعة الجائلين والأرزاقية ليشربوا وبعد تأمل لفعلهم ليحفظ الفعل الذي قام به على الفور فرفع إحداها على فمه، تطربه سيل الماء المتدفق منها فيستزيد كمن لم يشرب من قبل حتى سال الماء على عنقه وواصل السير حتى بلغ صدرره وبلل ملابسه ولم يبالى بالماء الذي بلغ سرته، فقط سعيد بكشفه الجديد، يجول بعينيه لتتأكد الصورة الجديدة داخله، كأنه يرغب في أن يسأل وإن جهل المفردات المرتبة لماذا غاب عن الحياة الحقيقية كل هذا الوقت؟ المصل الواقي من المرض يكون جزء من الميكروب المسبب للمرض فهل الفطرة داخله عبرت عن نفسها في الحصول على المناعة التي بها يقاوم الأمراض؟ هل هذه الكيانات التي يراها عبارة عن شياطين؟ كل منا بداخله ملاك وشيطان يتصارعان ومن يتغلب منهما على الآخر يفرض سلوكه وسمته على ابن آدم.
داهمته الرغبة في النوم فألقى بجسده على الحشائش في حديقة عامة تحت ظلال شجرة سدر وارفة واستيقظ والشمس تجمع دثارها من على جسد الكون ليتلبثه دثار آخر نقيض الشمس الفاضحة.
يسير على غير هدى مستمرا في عملية الكشف التي تسفر له عما خفي عنه طيلة سنوات عمره،
صوت جماعي يبلغ سمعه، يتحرك صوبه كأنه يرسم له على الأرض خطا يسير عليه كي يبلغ جمعهم، محيط بشري مترامي، توقف أمامهم يهتفون بصوت واحد ومفردات واحدة، متفق عليها من قبل، ولج المحيط غير هياب، يحتوونه، يجلس بينهم كمن غاب عنهم ردحا من الزمن ووجب الحضور بينهم، ووجد نفسه أليف يؤلف بين جمع تعارف معهم وما تناكر بينهم، إنه مرج الحرية التي يتوق إليها دون أن يعرف حروفها أو معناها، إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها حتى عند من خيم علي عقله الضباب منذ ميلاده.
وبحروف مثقلة ردد ما يقولونه دون استفسار، إذا ساروا سار معهم وإذا توقفوا توقف معهم، الآذان رفع فوق المئذنة قاموا للوضوء وقف مصطفا معهم يتوضأ ناظرا إليهم يفعل كما يفعلون ثم عاد ليتخذ موضعه بينهم يطيل النظر إليهم، الإمام يكبر تكبيرة الإحرام فيعقبونه في التكبير لبدء الصلاة، يفعل مثلهم، يقبلون على طعامهم يعطونه لفافة كما لكل منهم، يعودون للهتاف ويشتد ويزداد أواره مع التلاقي بنقيضهم، يمارس معهم الكر والفر، يتفرق جمعهم قسرا بسبب ذلك الدخان المتصاعد فيبتعد معهم ثم يعودون للولوج في مرج النارالذي يحتويهم فيعود معهم غير هياب.
عاد الالتحام بين النقيضين، السماء تمطر عليهم وابلا من سجيل فتسجى الأجساد على الأرض وقد يتفرق جمع أبعاض الجسد الواحد وقد تلتهم النيران أمواتا وأحياء فتخلف تماثيلا من فحم.
غيب مع من غيبوا لا يعرف في أي فئة يعد، فئة الأبعاض المتفرقة أشلاء أم تماثيل الفحم أم واحدا مما كتب على جثمانه "مجهول" فقط ذاب في هذا المرج وقام إخوته للمرة الأولى بنشر صوره ووصف حالته بدقة والإعلان عن اليوم الذي تغيب فيه وتخصيص مكافأة مالية كبرى لمن يعثر عليه أو يدلي بمعلومات عنه، لأول مرة يسفرون عن عورتهم كاملة ولا يرغبون في التواري وأخذوا يلصقون صوره على الأعمدة وواجهة المباني بالشوارع ومواقع التواصل الاجتماعي ولكنه ذاب في الطوفان الذي أصاب المرج.

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...