الاثنين، 23 سبتمبر 2019

( آخر الليل) قصة قصيرة بقلم سحر القوافي . الجزائر


                          سحر القوافي . الجزائر

قصة قصيرة

( آخر الليل)
                   
     التهم الديجور الدامس الربوع والٱفاق وأرجاء الحياة..ولاذ الناس يحتمون من ظلمته وقره ببيوتهم وأفرشتهم..وليل الخريف يمتد ويمتد في أعماق ذاكرتها المشوشة ليعكس لحظات الوجع ويوعز للنفس بالإنكفاء فيستحوذ على روحها  ألم مفاجىء يقوقعها في مطاحن الاغتراب والموت..ويتردد الصوت القادم من الذاكرة عبر الهاتف متقطعا بالنشيج :لقد مات..قتلوه..غدروا به..ذبحوه..فصلوا رأسه عن جسده..
كان صوت والدته التي تملكتها هستيريا النحيب والصدمة ..فأصبحت كالمجنونة تهذي بنفس الكلمات..وكأنما هي كل ما تبقى لها من لغة ..لقد عقدت الفاجعة لسانها إلا عن هذه العبارات ترددها بلا كلل ..
كانت هدى تتوجع في صمت خانق خشية أن تسمعها والدتها..تسح عيناها العبرات ..وفي روحها تلاطمت أمواج العذاب الذي يمزق فؤادها الرقيق..
لم تكن الشابة قد تجاوزت الثالثة والعشرين بعد..طالبة جامعية بمعهد الٱداب..تتمتع بجمال هادىء ووجه وديع وعيون واسعة ناعسة يتدفق من نظراتها الحنان والحزن..
تعيش في وجل ورعب دائم كغيرها من أبناء الوطن ..وكان خطيبها عمر مهندسا شابا طويل القامة يتمتع بجمال عربي وسمرة وهدوء وخلق قويم..تعرفت عليه هدى بحرم الجامعة وجمعتهما علاقة حب انتهت بالخطبة..كثيرا ما تحدثا عن وضع الوطن الرهيب وما تخللته من أحداث غريبة مبهمة تطرح أكثر من سؤال يفتش عن جواب..دوامة من الاستفهامات تدور في رأسها المتوعك من كثرة المشاهد الدامية..من قتله..؟! من هذا الذي ينحر البشر بدم بارد ؟! ولماذا؟؟هل شلال دماء الأبرياء التي أريقت هي قربان السلطة والحكم..؟!وكم يلزم من ضحية لتكف أياديهم عن الفتك والذبح والترهيب والترويع..؟!متى ينجلي هذا الليل الطويل وينبلج الصبح وليل بلادي صقيع ونار وغول مرعب يقتحم الديار وينتهك الحرمات والأعراض ويغتصب المحصنات..ويريق الدماء..لا تسمع فيه إلا دوي الرصاص يخترق صمته المريع أو النحيب والعويل على قتلى الغدر والخداع..أو أنين الهلكى والجياع..؟!
هذا الأخطبوط الذي يستنسخ ذاته كلما قطعوا له إصبعا ظهرت أخرى..لقد قبض على الوطن ومد فيه أصابعه المرعبة وألقى عليه شباكه العفنة فمست ريحها كل الزوايا والشوارع والأرجاء..القلوب داميات راجفات والعيون باكيات ..وظلام الليل الدامس يمتد ويمتد ..
فلا ترى إلا البؤس ولا تسمع غير النحيب والتنهيدات والٱهات..ضياع ويأس ووجع..تلك هي أيامنا..المخضبة بالدماء..غاب فيها العدل والعقل ..واغتيل الحلم والأمل..فالأخطبوط لم يبق لنا غير الصقيع أو الجحيم والعتم..ووجوها عابسات شاحبات مكدودات ..غابت عنها البسمات وشفاها خرساء تخشى الكلم..
مرت سنون طوال ..سنون عجاف..وقحط وجفاف ..ودم ووهن..
كانت هدى غارقة في هواجسها وخواطرها .. تسح العبرات من شدة الألم الذي بات غصة تخنقها ..ومازال صوت والدة خطيبها المغتال عمر يتردد في ذاكرتها كالنشيج..ومعه صور شتى للحكايا والضحايا ..هذه الفتنة الكبرى. هذا الإعصار الناري الذي ضرب بشراسة وأتى على الأخضر واليابس..فهي لم تنس صورة جارتها الحلاقة فتيحة التي وجدتها ذبيحة مكبلة اليدين ملقاة على الرصيف ذات صباح ..تأملتها مصدومة من هول المشهد القاسي..أجهشت في بكاء مرير وقفلت راجعة إلى البيت والألم يعتصر قلبها وهي تتصور معاناة أطفالها الصغار الذين مازالت ووجوهم تعكس صورة الفاجعة والمأتم..فحزنهم ووجعهم لا تمحوه السنون..كانت تبحث عن إجابات لأسئلة تقرع في رأسها وتمنعها من النوم.. بأي ذنب يقتلون؟!.. وما هوية هذا الأخطبوط المدمر ؟! ومن أين ولج إلى الديار فأعاث فيها الفساد والدمار ..؟!
كان يوم نعي عمر أسودا.. مازالت ذكراه ترتسم في ذاكرتها وتحفر في قلبها معابر الوجع والشجن..مازالت تبكيه كلما ٱوت إلى فراشها أو جلست إلى وحدتها..كلما جن الليل أو هبت العواصف والمحن يشتد وجع الوطن..مازالت مرارة الفقد تتوغل في روحها العطشى لقطرة مزن..ومازال الأخطبوط يستنسخ نفسه في صور مختلفة وبوجوه شتى..ومازالت تتذكر قصة السجين التي رواها والتي لم يصدقها كثير من الناس ..حكاها بحسرة وألم ..عن لص مقنع مسلح  بالرشاش والبندقية ومعه زبانيته كان يسرقه..ويستولي على ماله..ويرغمه على توقيع عقود بيع أراضيه التي ورثها عن جده وأبيه تحت التهديد بالقتل..فكان يبلغ الأمن ولا جدوى..فهو لديهم مجرد مجنون مخبول يتوهم أحداثا ..فعقد العزم أن يبلغ شكواه إلى أعلى هرم في المدينة ..وبعد طول انتظار ..وشهور من السعي استقبله جلالة الحاكم الأعظم..وكم كانت المفاجأة والصدمة ..لقد كان صوت جلالته عينه صوت السارق..وجسده..إنه اللص المقنع..الذي يغير الأقنعة كلما قام بسطو جديد..صدمته الحقيقة واكتشف سر صمت رجال الأمن وكتم مرارتها في نفسه..قدم شكواه لجلالته فاعتقله بتهمة التبليغ الكاذب وزرع الرعب والخوف والبلبلة بين الناس..والتٱمر على أمن الوطن..
تتقلب هدى في فراشها الذي استحال إلى قتاد ولهب..وقد ازداد الصداع ..ومعه ارتفع أنينها وبات في مسمع والدتها التي انتفضت مذعورة ورمت الغطاء عن جسدها وهرولت مسرعة نحوها لتطمئن عليها..مسحت هدى الدموع بحركة خاطفة من يدها بطرف البطانية..واجتهدت
في إقناع  والدتها بأنه كابوس روادها.. رأت فيه ماردا أسودا يخنقها..فكانت تئن في نومها..وأنها ستنهض للوضوء وقيام الليل..فعادت الأم إلى نومها..بينما توضأت هدى وصلت بضع ركعات وأكثرت من الدعاء..ثم جلست إلى مكتبها وراحت تخطط رسالة من وجع ..كانت حروفها تتقاطر بالألم الفظيع..
وكتبت على ورقة بيضاء عليها بقع دمعها الممزوج بالكحل:
يلاحقني هذا الليل بأطيافه الغريبة.. بأنيابها العجيبة.. تنغرز في فؤادي.. تمد يديها إلى عنقي وتخنق أنفاسي..وتكتم أنيني..خجلت يارب من أمي أن تسمع آهاتي وعويلي.. خجلت ان تسألني.. وأن أجهش في وجهها بالبكاء.. خشيت أن ترى مرارة  وجعي.. خجلت يارب من ان يلفحها لهيب أعماقي.. خجلت يارب وما ذنبي.. وما حيلتي.. وما قولي.. وما شفاعتي..؟!
 ينام الكل إلا وجعي..الذي يصر على البقاء مستيقظا..ينام الجميع إلا هذا الظلام الذي ابتلع في جوفه كل شيء حتى أحلامنا..
كيف أعيش بعد الٱن.. وفي روحي اجتمعت كل الهموم.. كيف أحيا.. بكل هذا الشجن.. وقد قطعوا قلبي أمام عيني وشيعوه في كفن..أتراهم يشربون نزيفه.. ويرقصون على بكائي ونحيبه..؟!
 الكل ينام إلا وجعي ..إني أبحث عن سبيل للخلاص.. فلا أرى حولي غير العتم يلف دربا من السراب.. تتيه بي الخطوات لأسقط في غياهب العذاب.. ولا أسمع سوى صدى نحيبي.. يردده الردى بضلوعي..
أحست هدى بنوع من التوعك، رفعت رأسها  وأزاحت الستار عن النافذة كمن يفتش عن منفذ للهروب من وجع الروح والذاكرة..رأت خيوط النور قد بدأت تتسلل في الأفق وتزيح جيوش الظلام..فتنفست بعمق شعرت من خلاله  بشيء من الأمل والسكينة تعم روحها.. وأسرت في نفسها إنه ٱخر الليل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...