حقيبة المدرسة
لقد ذهب فصل آخر من عمره مسرعا…
نسمات الصّيف الحارّة باتت أكتر برودة وإنعاشا، بل صار اللّيل لاسعا، والبعوض أكثر شراسة، يريد أن يمتصّ أكبر كمية من الدّم لأنّ فترة خموله في الشّتاء طويلة وباردة.
الحقول التي كانت خضراء بالأمس، صارت اليوم قاحلة، والشّمس لم تعد حادّة كعادتها منذ شهور، تحجبها قطع من الغيوم العابرة…
إنّه الخريف، رائحته تملأ الصّدر، محمّلة برائحة الكتب والدّفاتر الجديدة وعبق خشب أقلام الرّصاص والممحاة الملوّنة.
إنّها أجواء المدرسة، أو لنقل إنّها أجواء عام دراسيّ جديد، لأنّ المدارس لم تعد موجودة!
فقد كانت أكبر ضحايا الحرب واستُهدفت أكثر من البشر أنفسهم.
أخرج صلاح حقيبته من الكيس، وهي التي رافقته منذ أربع سنوات خلت، عندما اشتراها أبوه جديدة على غير العادة، ربّما لأنه لم يكن يومها عاطلاً عن العمل.
فتح الحقيبة مع ابتسامة رقيقة، مايزال ينتظره فيها قلم رصاص بنصف عمره، ومبراة زرقاء نصلها مثلّم طالما خذلته، فلجأ إلى سكّين المطبخ.
أمسك بأطراف أصابعه ممحاة عجوزا جافّة كأنّها حصاة تأكل الورق بنهم، تحمل آثار أسنان صغيرة هي عضّة حماسيّة من أخته الصّغرى ذات السّنة ونصف.
في الصّف الخامس سيسمح لهم بالكتابة بأقلام الحبر، لذلك لن يكون لقلم الرّصاص وملحقاته أيّ قيمة، ولكن هذا لا يعني رميهم، لأن أحد إخوته يمكن أن يستفيد منها.
أخرج دفاتر السّنة الفائتة، قلّبها وهو يحاول استذكار بعض المواقف ويبتسم!
فتح جيبا آخر فيها وقبض على حزمة من أقلام ملوّنة بأعمار مختلفة، أقصرها عمرا هو القلم الأخضر، فهو الآن بعمر سُلاميّتين.
قلَبَ صلاح الحقيبة فاسّاقطت منها رقائق خشبيّة بألوان مختلفة، إنّها بعض ما نزف من أقلام التّلوين عند بريها، وتساقطت أيضا حبّات سمسم سمراء هاربة من لفّات الزّعتر الجافّة التي كان يغصّ في كلّ لقمة منها.
ضغط على حبّة منها فالتصقت بسبابته، أدناها من فمه وسحقها بثناياه، أحسّ بطعمها اللذيذ فابتسم.
قد يفقد المرء منمنمات صغيرة لا يشعر بها، ولكنّها ذات أهمية، فهي تضفي لمسة جميلة على ما هو أساسيّ، تماما كحبّات السّمسم في عروسة الزّعتر!
الآن، لم تعد الحقيبة مناسبة للصّف الخامس، على الرّغم من أنّ فيها ثمالة روح، في العام الفائت وزّعت جمعيّة خيريّة حقائب على التّلاميذ، ولكنّ والده باعها في المكتبة واشترى بدلا منها دفاتر، من دون أيّ ردّة فعل من صلاح، لحاجته للدّفاتر أيضا.
نقل علبة الهندسة ودفاتره المستعملة إلى كيس من النّايلون، وأعطى الحقيبة ومحتوياتها لأخيه الأصغر، فلا أمل في شراء حقيبة جديدة، وهناك بعض الأمل في أن تتذكر جمعيّة خيريّة أنّ هناك قلوبا صغيرة ظمأى لنقطة فرح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق