الاثنين، 1 مايو 2017

الخرطوشةُ الأخيرةُ /قصة قصيرة للأديب العراقي: مجيد الزبيدي / مجلة قطوف أدبية /رئيس التحرير: سمر معتوق / نائب رئيس التحرير: نسرين العسال


الخرطوشةُ الأخيرةُ
قصة قصيرة : مجيد الزبيدي - بغداد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في تلك المساحةِ الملوِّنةِ باخضرارِسعفِ نخيلِها العائطِ،وأشجارِالبرتقال الشائخةِ،الممتدةِ ما بين القريةِ الصغيرةِ،وسدة ِالنهرِالمنحدرِمن الشمال،اعتاد في عطلته الإسبوعية أنْ يحمل بندقيتَه ، ليعودَ بعد الظهر بصيدٍ وفيرٍ من (الفخاتي ) بعضها تكون وجبةَ غدائهم لذلك اليوم ، وما زاد عن حاجتهم ، يبعثه مع ولده الصغير لواحدٍ من الجيران.
هذا الصباح ، لم يفز بصيد واحد لحد هذه اللحظة . إلا بفاختةٍ واحدةٍ، سقطت بعيدا، أسرع إليها،ليجدها بين فكي كلب ضال جائع، جاء ليبحث هو الآخرعن ما يسكت صراخ معدته الخاوية. وفاختة أخرى أصابها ،لكنها تحاملت على جرحها وهربت. يبدو أن النحس يلازمه هذا اليوم ، بالرّغم من أنه قد جال البستانَ طولاً،وعرضاً وأهدرالعديدَ من الخراطيش من دون أن يحظى بصيدٍ واحدٍ . تذكّر،هذه المرّة أنه تشاءمَ فيها من البداية،بعد أن قفز مذعوراً أرنب من أمامه ،من بين الحشائش.فهو بحكم قناعة متوارثة، ومعروفة في مجتمعه القروي، نذير شؤم .فهو لم يستطع حتى هذه اللحظة من الفوزبفاختة واحدة، على رغم من براعته المعروفة في التصويب عند أصحابه ،إذ يندرأن تفلتْ من خرطوشته ( فاختة ،زاغة،او طبانة) ،على الرغم من حذرها الشديد ممن يقترب منها.هو يتذكرالآن أنّ مثل هذا حصل له قبل أشهر، حين عادَ بسبب مصادفته نحساً آخر في طريقه للصيد،و هو (جبار الأعور).وكلّ أعور يمثل عنده نحساً مقيتاً. بعكس مرأى ابنِ آوى، فقد سمع عن فأله الحسن الكثيرمن حكايات الناس،وأيضا من خلال تجربته ،إذ ما صادفه صباحاً الا وكان الصيدُ (ما شاء الله). وحتى الحيّة التي يمقتُ منظرها كثيراً. فقد جرّبَ فألها، حين صادفته ذات صباح أحد النهارات، فتركها وشأنها ملفوفةً كإنبوبة ماء،وما لبث أن صادَ بالقرب منها (ديك دراج)، وهو من أفضل الطيور،التي يتباهى كلُّ الصيادين باقتناصه،كون لحمه اللذيذ،أفضل بكثيرمن لحوم الدجاج، و(علي شيش) ،والبط البري.
نفثَ غيظَه،وهو يضع بندقيتَه على كتفه ،وينسلّ من بين الأشجار،إلى شاطئ النهر؛ممنّياً نفسه بواحد من(طيور الماء)، بآخر خرطوشة بقيتْ معه، بعد أن خذله النحس في صيد [الفخاتي] هذا الصباح .
عندما اقتربَ،تطلّع من بين شجيرات (الطرفة، والغرب)إلى الماءِ اللامعِ،المنساب بهدوء تحت أشعّة الشمس الدافئة. كانت النوارس،تلوّن صفحةَ الماء،والسّماءَ باجنحتها الجميلة، إذ راحت ترفُّ بها متقاطعة مع بعضها ،صاعدة، هابطة فوقَ ماء النهرِ،ملتقطة بمناقيرها الجميلة ما تراه من أسماك صغيرة.مشكِّلةً منظراًخلاباً يبهج القلوب بروعته .استغربَ من خلوِّ الشاطيء من وجود أيِّ شخصٍ، ممن اعتادوا رمي خيوط سناراتهم في ماء النهر لصيد السمك.نظر إلى ساعة معصمه،ياه !! الوقتُ يقترب من الواحدة،لم يرَ أيَّ شخصٍ ،حتى أصحاب شِباكِ الصيد. فقد ربطوا قواربهم إلى الجرف ،وغادروا بما حصلوا عليه من رزق وفير.جالَ بنظره كلَّ المساحةِ الزرقاء المكشوفةِ أمامه. لم يتبقَ إلا بعضُ الكلاب الجائعة ،التي تنتظر سمكة طافية ، كان قد قتلها ( الزَّهَرْ) ،الذي يرميه بعض الشبّان في عرض النهر،بغية الحصول على السمك بهذا السّم .
في لحظةِ فرحٍ مفاجئةٍ، تسلّلت إلى قلبه ،صاح : الله !! لقد رأى كُركيُّاً كبيراً، كان قد حَطُّ للتوِّعلى الجُرفِ الرمليِّ الناعمِ ؛ ليروي ظمأه،او ليرتاح قليلا، بعد ان قطعَ في رحلة هجرته إلى هنا آلافَ الأميال. يبدو أنه أثارَ أنظارَ ،وشهيَّةَ أحدِ الكلابِ القريبة ،الذي أقعى ينظر صوب الطائر، مُتربِّصاً به غفلة ؛لينقضَّ عليه. راح يراقب منظرالمنقارالطويل وهو يدُاعبُ صفحةَ الماءِ بلهفةٍ .الكركيُّ الغافلُ يرفعُ عنقَهُ للحظاتٍ ،ويعود ليغمسهُ في الماء لمراتٍ. آهٍ لو استطاع قنصَ هذا الكركيّ السمين ِ،لذيذ الطعم ،فسيكون خيرَ تعويضٍ عما فشلَ في صيده في البستان هذا الصباح. من بين شجيرات الشاطئ، وبحذرٍ شديدٍ ،صوّبَ ماسورةَ بندقيته. يالله ،يالله، بسم الله، في لحظة وثوبِ الكلبِ، أطلق خرطوشته التي تردّدَ دوىُّ صداها على سطح الماء . قَفَزَ الطائر، فَزَع الكلبُ، ولىّ مذعوراً.جناحا الكُركيِّ خذلاه في أن يطيرهارباً ،إذ لمْ تستطيعا حَمْلَه إلّا لمسافةٍ قصيرة نحو الماء. هبَّ راكضاً نحوه.أسرع بنزع ِملابسِه ،ليطارد صيده سباحةً .يدُه ظلتْ تطاردُ الطائرَالزاحف على سطح الماء،مخلفاً وراءه خيطِاً متعرّجاً من الدم . وصلَ وسطَ النّهرِ،عيناه تلاحقان صيدَه بلهفةَ.الطائرتبدو إصابته بليغة ،حتماً ستعوقه ليهرب بعيدا،وفي النهاية سيتمكن من الإمساكَ به. الفوز به صار وشيكاً، دقائقُ قليلةٌ من الملاحقةِ فقط.
فجأة انتبه لصوتِ هديرٍ زورقٍ بخاريٍّ لأحد هواة النزهة في النهر، جاء من بعيد.ظلّ يقتربُ. يبدو أن صاحبه رأى الكركيَّ الجّريحَ ،اللائذَ بالفرار. بسرعة اقترب منه ‘ وبكلِّ سهولةِ انتشله من الماء. ياه!! شكرا للصدفةِ الجميلة ِ،لابدَّ أنَّ قائد الزورق قد رآه يطارد الكركيَّ،ورغبَ في مساعدته.لكنْ الزورق بدأ يبتعد مسرعاً ، قائدُه غير مكترثٍ بصوتِه المُحتجِّ وسيلِ شتائمه، ولعناته خلفه. ياللنذالةِ !! حرام عليه، هربَ بغنيمتِه التي لا يستحقها.
عامَ عائداً إلى الجرف ،يكاد يفتكُ به القهرُ.وبكلّ انخذالٍ، ارتدى ملابسه، معلّقاً بندقيتَه على منكبه، وعيناه ما زالتا تلاحقان الزّورقَ الهاربَ، الذي بدأ يتوارى خلفَ الأفقِ المائي البعيد، مخلّفا مويجاتٍ صغيرة ظلّت ترتطمُ بجرفِ النهرِ.
نَكصَ راجعا إلى بيته ،عبرَ دربٍ آخرٍ في بستان النخيل، وهو يلعن في سره كلَّ أرانبَ الدنيا، التي حرمته من صيده هذا النهار. حين وصلَ المنعطفَ المكتظَ بالأشجار، وقفَ مصعوقاً من مشهدِ أرنبٍ كبيرٍ، يفرّ من أمامه، بعد أن أخطأته خرطوشة أحد الصيادين.حين اقترب منه وتبيّنَ ملامحَهُ ،كان الصياد هو ( جبار الأعور ) !!. من دون وعيّ منه، صرخ: تبّاً للصيد ياساتر،ربي احفظ عيالي.
وأسرع الخطى باتجاه داره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...