الأربعاء، 27 مارس 2019

( سلام ) قصة قصيرة. القاصّ السوري منور فيصل الناجي


                    منور فيصل الناجي.  سوريا 



قصة قصيرة: ( سلام )

حشود غفيرة من المهجّرين على أبواب المعابر قاصدين بلادهم بهد أن تحقق السلام فيها.
هنا سوري أدمى عيونه البعد لرؤية بيته وأرضه، وهناك فلسطيني أهرمته قساوة خمسين عاماً من النزوح، وشيبه الشوق لصلاة ركعة واحدة في القدس الشريف، وإلى جانبهما عراقي يتلهف لرؤية أشجار النخيل الباسقة في بلاده.
ضجيج، صراخ، كل واحد منهم يريد الدخول أولاً.
وقف (أبو صالح) على باب المعبر من جهة بلده، عائداً إليها بعد نزوح دام خمس سنوات من القهر، زادت من تجاعيد وجهه الهزيل.
رفع ظهره المنحني متكئاً على عكَّازه المصنوع من غصن شجرة زيتون، كان قد حمله معه أثناء نزوحه من قريته ليساعده على المسير، وليبقى ذكرى تخفف من شوقه لأشجاره التي غرسها بيديه وسقاها بعرق جبينه.
وضع راحة يده على ذاك الجبين المتعب ليظلل عينيه من أشعة الشمس، رنا إلى تلك الجبال السامقة التي تفصله عن بلدته محدثاً نفسه، متنهداً بزفرات أشد من حرارة الطقس:
اشتقت إليك، اشتقت لرائحة ترابك، لأشجار التين والزيتون، لمعاصر الزيت، وأشجار الصفصاف المتجذرة على ضفاف نهر العاصي.
هل عانيت مثلما عانينا في بعدنا عنك?
ربت على كتفه ذاك الرجل الفلسطيني، وضع يده تحت إبطه، ساعده على الاستقامة.
-انهض يا أخي، لا تنحني، فالأرض تشتاق إلى لمساتك.
خمسين عاماً، وأنا بعيد عن بيتي، بعيد عن أرضي، وأشجاري، تائه في تلك الشوارع المظلمة، فكري لا تفارقه الذكريات، لا تفارقه قبة المسجد الأقصى.
خمسين عاماً، ومفتاح بيتي هذا معلق في عنقي، أنتظر تلك اللحظة التي ما فارقت خيالي، وهاهو الحلم يتحقق بالعودة إلى بلادنا التي هجرنا منها قسراً.
عدوك هو عدوي، يحمل الأفكار ذاتها المشبعة بالحقد والعنجهية، هو عدو كل العرب، عدو كل إنسان ينطق الشهادتين، هدّم بيوتنا، وسلب محتوياتها، هدّم مساجدنا وقلع الأشجار التي غرسناها بأظفارنا ورعيناها بأبصارنا.
صحيح أن الصحوة العربية جاءت متأخرة بعد كل هذا الظلم الذي لاقيناه، وبعد كل هذه السنين التي عشناها مغتربين، لكن الضمائر صحت أخيراً وتوحدت الكلمة، وارتفع صوت الحق ناصراً للمظلوم.
أجاب (أبو صالح):
لقد تأخروا يا أخي، انظر إلى ما خلفته تلك الحروب من شهداء، ومفقودين ومعتقلين وثكالى وأرامل.
سحقاً لكل من وقف بجانب الظالم، بجانب من قتل أبناءنا ويتّم صغارنا، سحقاً لكل من هان عليه تشريدنا.
ناداه العراقي الذي كان يقف جوارهما، ويسمع حديثهما:
هوّن عليك يا أخي، ولا تنسنا فرحتنا هذه، ها انت تعود إلى بيتك لتلتقي بأهلك ومحبيك، غداً ستستيقظ على أصوات العصافير التي أخذت من أغصان أشجارك مسكناً لها، ستغرد فرحًا بعودتك إليها، ستفرح حينما تعود وتنثر الحب في ساحة بيتك، ستبقى تلك السنين التي نزحت بها ذكريات، تحدث أحفادك عنها.
- تبًا لتلك الذكريات التي محت كل ذكرياتنا الجميلة.
اشتدت الرياح القوية فكانت سبباً في اقتلاع أوتاد خيمة (ابو صالح)، انتفض مرعوباً مستيقظاً من نومه العميق الذي ما تمناه أن ينتهي، وراح يثبت دعائم خيمته، مبتدئًا يومه بمعاناة جديدة في ظل صمت العالم.

                                النهاية



هناك تعليق واحد:

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...