الأحد، 24 ديسمبر 2017

القناع - القاص: عبد الصبور الحسن / مجلة قطوف أدبية / رئيس التحرير: سمر معتوق - نائب رئيس التحرير: نسرين العسال

القناع

اليوم اشتريت علبة (المتّة) الخضراء رقم اثنان وعشرون من أجله! من أجله فقط، فأنا أو أحدا من الموظّفين لا نشرب المتّة خلال الدّوام لضيق الوقت…
ليس هذا وحسب، بل حضّرتُ له طاولة وكرسيّا مريحا ليجلس عليه، بالإضافة لغاز (سفير) لتسخين ماء المتّة كلّما نقصت حرارته.

منذ أكثر من ثلاثة أشهر وهو يواظب على الزّيارة اليوميّة! يضع درّاجته السّوداء تحت ظلّ الشّجرة، يسحب مفكّرته التي حزمها إلى الدّرّاجة بالمطّاطة، يدخل المكتب عابسا صباحا، يتمتم بكلمات تشبه التّحية، وأتمتم بكلمات تشبه الرّدّ.
تفوح من فمه رائحة منتنة، وأحيانا رائحة خمر!

يجلس إلى الطّاولة، يُخرج من جيبه مصّاصة متّة صدئة كأسنانه، يفرغ القليل من المتّة داخل الكأس بعصبيّة، فتتطاير منه ذرّات المتّة كأنها رماد بركان صغير، وتسّاقط على زجاج الطّاولة.
ينفخ الغبار بفمه، ثمّ يمسح الزّجاج براحة يده، يسكب الماء السّاخن في الكأس من دون وضع القليل من السّكّر، يأخذ منه رشفة وينتشي مغمضا عينيه لثانيتين، وكأنّه مفكّر أو كاتب يرتشف فنجان قهوته الصّباحيّة.
يفتح مفكّرته السّوداء التي نُقش عليها بخطّ مذهّب:
هدية الشّركة الوطنيّة للتّبغ والتّنباك والسّكك الحديديّة
العام ٢٠١٠
كلّ عام وأنتم بخير.

يمسك قلما من ماركة (ريم) الوطنيّة بيده اليمنى، وكأس المتّة بيده اليسرى، ينظر إليّ بعينيه الذّئبيّتين ويبدأ بتوجيه الأسئلة اليوميّة نفسها منذ ثلاثة أشهر:
- اسمك الثّلاثي؟ لا داعي، حفظته!
- …… !

- مواليدك؟
- ١٩٧٤

- عنوانك التّفصيليّ مع رقم الهاتف الأرضيّ والجــوّال؟
- شارع (فيديل كاسترو) المنزل رقم ٢١، معروف من قبل المختار أبو صطّوف، ليس لدي هاتف أرضيّ أو جوّال.

- هل أنت منتسب لأيّ حزب؟
- لا، أنا حياديّ إيجابيّ!

- تصلّي؟ ولماذا؟
- نعم، خمس أوقات، لأنّني مسلم!

- ألا تعلم بأنّ الصــّلاة ممنوعة في الدّائرة؟
- أعلم، ولا أصلّي في الدّائرة، بل في البيت فقط.

- ما رأيك بحركات التّحرّر العالميّة؟
ما رأيك بدول بريكس؟
ما رأيك بمعاهدة كامب ديفيد؟
ما رأيك بابن تيمية؟
ما رأيك بثورة الإمام الخمينيّ؟
ما رأيك بسعر أسطوانة الغاز؟
ما رأيك بثورة الزّنج على الدّولة العبّاسيّة؟؟
- م…أ…ج…ت ت… !

- لا داعي لا داعي… أعرف، وجّهتُ إليك هذه الأسئلة من قبل، أليس كذلك؟
ينظر إلى أطراف أصابعي للمرّة المئة، ليتأكد أنّها لا تحمل لون دهان أسود، ثمّ يتابع:

- هل لمحتَ الشّخص الذي كتب على جدار الدّائرة:
الشّعب يريد… .؟
- لا لا أبدا…

ينظر إلى السّاعة ثم ينهض قائلا:
- غدا نكمل….
يسحب مصّاصة المتّة، يسكب عليها القليل من الماء السّاخن، يدسّها في جيبه ويغادر…!

البارحة استدعيتُ إلى محكمة حماية الثّورة الشّعبيّة العليا، كان يجلس خلف الطّاولة رجل بلحية طويلة، عرفته!
إنّه هو هو… بأسنانه القذرة ورائحة فمة المنتنة وعينيه الذّئبيّتين، ومصّاصة المتة الصّدئة التي في كأسه هي هي… !

فتح مفكّرته السّوداء التي كُتب عليها بخط مذهّب:
هدية الشّركة الثّوريّة الكبرى للتّجارة
العام ٢٠١٧
كلّ عام وأنتم بخير
نظر إلي بقرف، ثمّ حدّق في أطراف أصابعي باحثا عن أثر للدّهان الأسود وقال:
مِنَ الآخِر….
من الذي كتب على باب محكمة حماية الثّوريّة الشّعبيّة العليا: الشّعب يريد… !!؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخر ما نُشر في قطوف

كدمة بقلم الشيماء عبد المولى . الجزائر

″ كدمة ″ كلُّ الكدمَاتِ مُوجِعة وجعًا لا يُطاق يحاصرُ كلَّ قلبٍ مَريضٍ و كلَّ جفنٍ مُترَعٍ بلَيَالِي الانتظَار يطُولُ الوقتُ عَمداً تَلت...